بقلم / الدكتور منير السامرائي
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. و الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين..
في تاريخ الدعوات محطات كبيرة ينبغي التوقف عندها لأخذ العبرة واستلهام الدروس والمواعظ، ثم تصويب المواقف.. والقرآن الكريم يعرض كثيراً من هذه المحطات منبهاً إلى أنها سنن من سنن الدعوات ومساراتها..
وقضية “سرقة النتائج” التي يرتكبها الأعداء المتربصون بالدعوة وأصحابها أو المتسللون إلى صفوفهم، هي إحدى المحطات المشار إليها.. إذ يعمد هؤلاء- وهم يتابعون اقتراب تحقق أهداف الدعوة- إلى استغلال ظرف معين [غفلة أو تقصير أو ضعف استعداد..] في الدعاة إلى سرقة النتائج وخداع الجماهير بأن هذه النتائج إنما هي ثمار جهدهم واجتهادهم..
ولعل قصة السامري، في بني اسرائيل أحد الأمثلة الواضحة على ذلك، وقد ساق القرآن تفاصيلها بوضوح مبين.. وإليك المشهد:
- بعد أن تجلت دعوة الحق على يد نبي الله موسى –عليه السلام- وأهلك الله-تعالى- فرعون وجنوده في اليم، وبانت الأهداف تتحقق في خروج بني اسرائيل من مصر، وتحريرهم من الاستبداد والاستعباد الفرعوني، بدأت استعدادات بناء الدولة بالشروع، بتلقي التوراة عند جبل الطور ” وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ” .. وتلك لحظة مفصلية في تاريخ بني اسرائيل لإقامة دولتهم الموعودة..
- ولكن.. حرص القائد على الإنجاز الكبير، واستعجاله في إظهار الشكر والرضى عند مولاه، جعل النبي يسارع إلى اللقاء، مخلفاً القوم وراءه.. قال تعالى ” وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) “
- هنا يتبدى الموقف العصيب.. “غياب القائد”!! القائد الذي وعدهم بالتمكين-بوعد الله- غاب عن المشهد ولم يعد بينهم، يمسك زمام الأمور، رغم وجود القائد البديل، ولكن في الأوقات الحاسمة: البديل ليس كالأصيل.. فإذا بـ(السامري) يتصدى لقيادة الجماهير متلبساً لبوس المنقذ، الذي يمكنه أن يؤدي الدور ويوصلهم من أقرب طريق إلى ذات النتيجة.. إلى الإله.. دون عناء الخروج مع موسى.. ولكي تتم الخديعة، عليه أن يبهر الشعب بإنجاز-معجزة ” فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ” .. فوقعوا في الفتنة، وصدقوا الخديعة بما حملوا أوزاراً من زينة القوم: ” فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ” !!.
- السامري –هنا- يتبنى الهدف، هدف رؤية الإله أو ملاقاته.. وبدل أن يكون الإله هو الله رب العالمين، ويذهبوا بعيداً لملاقاته، فها هو الإله بين أيديهم، فاتخذ إلهاً مسخاً عجلاً له خوار.. وانطلت الحيلة على الجمهور الساذج، ولم تنفعهم محاولات القائد البديل في ألا يفتنوا:” وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ” .. لكنهم أبوا إلا أن يكونوا شركاء في الخطيئة بانفضاضهم عن هارون ” قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ” ..
- هكذا هي مخططات الأعداء في احتواء النتيجة وسرقة الجهود، والاستفادة منها في هدم الدعوة تحت فلسفة ” بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا “.. فإن كان لموسى أن يدعو قومه ليتبعوه فإن للسامري –وأشباهه في كل عصر- أن يطالبوا الجماهير أن يتابعوهم، طالما أن لهم بصيرة يقودونهم بها إلى ذات النتيجة.. أن يكون لهم إله، من قريب.. دون أن يكلفهم عناء الخروج.. والهدف الأكبر من وراء ذلك هو اسقاط القائد المصلح وإلغاء دوره في الإصلاح والتغيير..
- استدراك.. واستكمالاً للدور القيادي، ولئلا تكتمل الفرصة في سرقة النتائج، بادر نبي الله موسى فور عودته من لقاء ربه، بدرء الخطر وبتر دابر المؤامرة السامرية، فقام بتعريته أمام الملأ ليعترف ” وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ” ، نفس مريضة تتلاعب بالمشاعر وتفسد في الأرض، فما حكمها؟ إنه الإبعاد، في تطهر من النجاسة المعنوية والمادية التي اصطبغ بها ” قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ” ، فتنفض عنه الجماهير منبوذاً، موعوداً –في تهكم مذل- بما تؤول إليه نهايته وإلهه المزعوم ” وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ” .. فغُيِّب عن وجه الأرض، وتبرأ باطنها عن احتوائه، فليس له إلا الحرق ثم النسف في أمواج البحر ولجبه.. فبئس المصير..
- وما ينبني على ذلك:
- ينبغي على القائد أن لا يغيب عن الساحة وأن لا يبتعد عن جمهوره-إلا للضرورة المقدرة بقدرها-؛ إذ إن غياب القائد يغري الطامعين بالتسلل إلى الموقع وخداع الجماهير بدعوى سد الفراغ القيادي، أو المضي في المسيرة واستكمالها على ذات النهج أو قريباً منه. فتحل الكارثة.
- فالقائد هو صمام الأمان.. وهكذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- حاضراً في كل موقف يتطلب حسماً وحزماً: في وأد الفتنة، ونزع فتيل الشقاق من النفوس المستثارة بلعاعة من الدنيا قد تفوتها، وفي لجم العواطف الجامحة نحو الثأر، أن تنزغ بين القلوب.. فكان –صلى الله عليه وسلم- كما يصفه الأصحاب: كنا نلوذ به إذا حمي الوطيس!!
- وعلى القيادة ألاّ تعول كثيراً على الجمهور “الرعاع” قبل أن يتمكن الإيمان من القلوب وتستعد النفوس للتضحية والفداء، وأن تتنبه إلى تلك “العناصر” المتطلعة، التي تتربص لقطف الثمرات دون أصحابها، من خلال الخداع والتأثير العاطفي في الجمهور، أو التدليس عليه..
- ومما ينبغي التفطن له في هذا السياق: طريقة التعامل مع الحدث، فبين (صرامة) نبي الله موسى –عليه السلام- و(مرونة) أخيه هارون- عليه السلام- مساحة كبيرة في السياسة الشرعية، ومدى واسع في فقه الموازنات، جديرة بالدراسة والاهتمام.. وهذا شأن قيادي ملزم على الدوام..