د. حسين غازي السامرائي
الدنيا عرض زائل، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة أجل صادق، يحكم فيها ملكٌ رحيم قادر، ويفصل فيها بين الحق والباطل، وفي سنوات الشدة والبأس وعصر تقلبات القيم والموازين وقهر الضعفاء وجبن وخور الأقوياء، ما أحوجنا إلى كنف رحيم ورعاية حانية، رحمة لا تضيق بتحقيق الحقوق والمطالب ورحمة لا تنفر من بت الهموم، الناس في هذا الزمان بحاجة إلى قلب كبير يمنحهم ويعطيهم، يكرمهم ويواسيهم ألا وأن من أعظم الأخلاق خلق الرحمة والتراحم بين الناس، بين الرعية والراعي خصوصاً.
فقد كان عليه الصلاة والسلام يشق عليه ما يشق على أمته فقد وصفه الباري سبحانه وتعالى بقوله: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة: ١٢٨، لذا فأنه ما خُير بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، تخفيفاً على أمته ورحمة بهم، ولولا هذه الرحمة التي زرعها الله في قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم لما كان للإسلام مكانه ورفعة وانتشار قال تعالى: ( فبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران: ١٥٩، فلولا هذه الرحمة لانفض أتباعه من حوله ولما وقع الإسلام في قلوب خصومه ذاك الموقع الذي سادت به الأمة وأرتفع شأنها.
وأن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى نشر خلق الرحمة، وزرعه في قلوب العباد وهذا من الإيمان فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن تؤمنوا حتى تراحموا)، قالوا يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: ( إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات. وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) متفق عليه، فالرحمة تعم جميع الخَلق مسلمهم وكافرهم صالحهم وطالحهم فقد أرسل رسول الله رحمة للعالمين وليس للمؤمنين فحسب، وفي السيرة مرت أمام النبي عليه الصلاة والسلام جنازة يهودي فقام لها فقيل له يا رسول الله أنها جنازة يهودي فقال: أليست نفساً، تلك نفس تفلّتت من يدي، فحزن عليه الصلاة والسلام بموت هذا الرجل لأنه مات على الكفر ولم يمت على الإيمان، فهذه رحمته بالخَلق .
لقد عمّت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى البهائم. فقد مرّ ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة واتركوها صالحة) رواه أبو داود. ودخل عليه الصلاة والسلام حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جملٌ فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي عليه الصلاة والسلام فمسح ذفراه فسكت فقال: (من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فأنه شكا إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبه) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي .
هذه الرحمة التي يتراحم بها العباد هي امتداد من رحمة الله تعالى فقد ورد في الحديث: ( إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم.
المصدر: المجمع الفقهي العراقي