قراءة سياسية في مشهد قرآني

0
6

بقلم الدكتور منير السامرائي

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين

القرآن العظيم ( لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد ) !! تتكشف مع الأيام أسراره، وتتجدد معانيه وتتألق أنواره.. وتتفتح أزهاره، وتتوارد بحاره..

وكل مهتم في شأن من شؤون القرآن- دراسة وتدبراً وتفكراً – يجد من العجائب الكثير ومن الأسرار الكم الوفير.. فآياته (( نور على نور )) .. وكلٌّ يقتبس من ذلك قبساً ويجد عليه هدى..

وهذه قراءة سياسية في مشهد من مشاهد القرآن، يحكي قصة من التاريخ الغابر، ولكن أحداثها تتجدد في كل حين، يشهد بها الواقع ويستشرفها المستقبل، مستقبل الصراع بين الحق والباطل..

في عالم السياسة، كثيراً ما يلجأ الطغاة إلى الارتكاز على بعض الخصائص النفسية والعاطفية للجماهير، من خلال إقناعهم بموقف ( لصالحهم ) وحثهم على التحمس له؛ ليحقق الطغاة – عبر تلك الممارسة – تشكيل “العصبية” الجماهيرية التي تساند النظام الحاكم، فتربط الجماهير مستقبلها، بل مصيرها بمستقبله ومصيره..

وتأتي “الممارسة الفرعونية” ، كما يرسمها القرآن مفصلة في “المواجهة” بين نبي الله موسى –عليه السلام- وهو يدعو إلى الحق، وبين فرعون مصر المتجبر، الذي لا يرى لقومه إلهاً غيره، ويغذيهم بثقافة (( وما أريكم إلا ما أرى ))..

وفي قراءة سياسية سريعة لتلك المشاهد تتضح عناصر الصورة الكلية لتلك الممارسة..

فبعد أن ذاعت دعوة الله على لسان موسى-عليه السلام-  في الأرجاء، وتردد صداها في أروقة ( القصر الملكي ) ، ما استفز الجبروت لإعداد خطة لصد الجمهور عن الدعوة وتشتيت الوعي عن مضمون الرسالة.. استغل سياسة القطيع في قيادة الجماهير والتأثير فيهم، وذلك بالتركيز على بعض المغالطات الدعائية، التي سرعان ما تنطلي على ” الرعاع ” فيندمجوا – دونما وعي – في الخطة، والمبادرة في تنفيذها ..

وإليك التفاصيل.

  • التمهيد باستلاب وعي الجماهير وإشعارهم أنهم أصحاب المصلحة في بقاء الأمر على ما هو عليه، والتشبث بالواقع ورفض التغيير، بذريعة أن موسى (( يريد أن يخرجكم من أرضكم )).. فها هو ينازعكم ملكية أرضكم، ويسعى لتهجيركم منها. فأين تذهبون ؟؟
  • وفي عزف على وتر الاستعلاء والتمسك بالمنهج، يثير في نفوس الجماهير أن موسى وأخاه يريدان أن (( يذهبا بطريقتكم المثلى ))..فهل من الحكمة أن تتنازلوا عن ” الطريقة المثلى ” إلى طريقة أدنى ؟!.. فأصحاب المبدأ لا يتنازلون عن مبدئهم، وأهل القضية لا بد أن يتمسكوا بقضيتهم.. والملك حريص على المبدأ والقضية، والتحذير قائم بلسان (( وإني أخاف أن يبدل دينكم )).. هذا الدين الذي تنعمون في ظله بالصلاح، يريد موسى أن يسلبكم إياه و(( يظهر في الأرض الفساد )) !! إنها أرضكم.. وإنها طريقتكم.. وإنه دينكم.. فأنتم محور النظام ، وأنتم حماته.. فما أنتم فاعلون؟
  • وهنا تنطلي سردية الإضلال على الجماهير فتثير في نفوسهم الحمية.. حمية الجاهلية.. ليستصرخوا (القائد المنقذ) : (( أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ))؟!! فيعلو الهتاف بالمطالبة باتخاذ خطوات حاسمة للمحافظة على النظام وسلامة الحكم.. والتصدي للخطر الداهم!!
  • فتأتي الفرصة السانحة للملك متقمصاً لباس المشاور لقومه المستمع لآرائهم : (( فماذا تأمرون ))؟؟ ألهب التساؤل المغري مشاعرهم وأحسوا أنهم شركاء في اتخاذ القرار، ولهم أن يشيروا عليه فيأخذ بما يرون.. إنهم أصحاب السلطة إذاً.. ولهم دور في المعركة الحاسمة..
  • وفي طغيان العاطفة وتصاعد مؤشرات الانتقام، مع غياب “القرار الجماهيري” المرتقب، يتولى القائد المبادرة، ويكفيهم عناء التفكير، فيطلب التفويض الشعبي باتخاذ القرار، بل القرار جاهز: (( ذروني أقتل موسى )).. نعم.. فمن واجب الحاكم أن يحفظ النظام ويدافع عن مصالح الشعب، ويدفع الخطر عن الأمة، وأن لا يترك مجالاً “للمفسدين” أن يعبثوا بالأمن والاستقرار؛ والتدابير الأمنية حاضرة: (( سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم )).. وليطمئن الشعب إلى قوة السلطة وقهرها يؤكد (( وإنا فوقهم قاهرون )).
  • ولتكتمل الصورة، صورة تزييف الواقع، وإقناع الجماهير بموقف”ثوري” وهمي، موتور بروح العصبية الجاهلية.. يبدأ الاستعداد للمواجهة الفعلية.. تلك المواجهة الخاسرة،ضمن استراتيجية ((وأضل فرعون قومه وما هدى)) التي انتهت في اليم، وقد ابتلعت أمواجه أفواج المغرر بهم..((فغشيهم من اليم ما غشيهم)).. لينتهي ملك فرعون إلى زوال، بعد أن نادى يوماً (( أنا ربكم الأعلى )).. ولكن ! (( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ))..
  • (( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى )).